فصل: بعث أسامة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» (نسخة منقحة)



.بعث أسامة:

ولما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من حجة الوداع آخر ذي الحجة ضرب على الناس في شهر المحرم بعثا إلى الشام وأمر عليهم مولاه أسامة بن زيد بن حارثة وأمره أن يوطيء الخيل تخوم البلقاء والداروم إلى الأردن من أرض فلسطين ومشارف الشام فتجهز الناس وأوعب معه المهاجرون الأولون فبينا الناس على ذلك ابتدأ صلى الله عليه وسلم بشكواه التي قبضه الله فيها إلى كرامته ورحمته وتكلم المنافقون في شأن الكرامة وبلغ الخبر بارتداد الأسود ومسيلمة وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عاصبا رأسه من الصداع وقال: «إني رأيت البارحة في نومي أن في عضدي سوارين من ذهب فكرهتهما فنفختهما فطارا فأولتهما هذين الكذابين صاحب اليمامة وصاحب اليمن وقد بلغني أن أقواما تكلموا في إمارة أسامة إن يطعنوا في إمارته لقد طعنوا في إمارة أبيه من قبله وإن كان أبوه لحقيقا بالأمارة وإنه لحقيق بها انفروا» فبعث أسامة فضرب أسامة بالجرف وتهمهل وثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوفاه الله قبل توجه أسامة.

.أخبار الأسود ومسيلمة وطليحة:

كان النبي صلى الله عليه وسلم بعدما قضى حجة الوداع تحلل به السير فاشتكى وطارت الأخبار وبذلك فوثب الأسود باليمن كما مر ووثب مسليمة باليمامة ثم وثب طليحة بن خويلد في بني أسد يدعي كلهم النبوة وحاربهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرسل والكتب إلى عماله ومن ثبت على إسلامه من قومهم أن يجدوا في جهادهم فأصيب الأسود قبل وفاته بيوم ولم يشغله ما كان فيه من الوجع عن أمر الله والذب عن دينه فبعث إلى المسلمين من العرب في ناحية من نواحي هؤلاء الكذابين يأمرهم بجهادهم وجاء كتاب مسيلمة إليه فأجابه كما مر وجاء ابن أخي طليحة يطلب الموادعة فدعا صلى الله عليه وسلم حتى كان من حكم الله فيهم بعده ما كان.

.مرضه صلى الله عليه وسلم:

«أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك أن الله نعى إليه نفسه {إذا جاء نصر الله والفتح} إلى آخر السورة ثم بدأه الوجع لليلتين بقيتا من صفر وتمادى به وجعه وهو يدور على نسائه حتى استقر به في بيت ميمونة فاستأذن نساءه أن يمرض في بيت عائشة فأذن له وخرج على الناس فخطبهم وتحلل منهم وصلى على شهداء أحد واستغفر لهم ثم قال لهم: إن عبدا من عباد الله خيره الله بين الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عنده وفهمها أبو بكر فبكى فقال: بل نفديك بأنفسنا وأبنائنا فقال: على رسلك يا أبو بكر ثم جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه فرحب بهم وعيناه تدمعان ودعا لهم كثيرا وقال: أوصيكم بتقوى الله وأوصي الله بكم وأستخلفه عليكم وأودعكم إليه إني لكم نذير وبشير ألا تعلموا على الله في بلاده وعباده فإنه قال لي ولكم: تلك الدار الآخر نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فساد والعاقبة للمتقين وقال أليس في جهنم مثوى للمتكبرين.
ثم سألوه عن مغسله فقال: الأدنون من أهلي وسألوه عن الكفن فقال: في ثيابي هذه؟ أو ثياب مصر أو حلة يمانية وسألوه عن الصلاة عليه فقال: ضعوني على سريري في بيتي على شفير قبري ثم اخرجوا عني ساعة حتى تصلي علي الملائكة ثم ادخلوا فوجا بعد فوج فصلوا وليبدأ رجال أهلي ثم نساؤهم وسألوه عمن يدخله القبر فقال: أهلي ثم قال: ائتوني بدواة وقرطاس أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده فتنازعوا وقال بعضهم أهجر؟ يستفهم ثم ذهبوا يعيدون عليه ثم قال: دعوني فما أنا فيه خير مما تدعونني إليه وأوصى بثلاث: أن يخرجون المشركين من جزيرة العرب وأن يجيزوا الوفد كما كان يجيزهم وسكت عن الثالثة أو نسيها الرواي وأوصى بالأنصار فقال إنهم كرشي وعيلتي التي أويت إليها فأكرموا كريمهم وتجاوزوا عن مسيئهم فقد أصبحتم يا معشر المهاجرين تزيدون والأنصار لا يزيدون ثم قال: سدوا هذه الأبواب في المسجد إلا باب أبي بكر فإني لا أعلم أمر أفضل يدا عندي في الصحبة من أبي بكر ولو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ولكن صحبة إخاء وإيمان يجمعان الله عنده.
ثم ثقل به الوجع وأغمي عليه فاجتمع إليه نساؤه وبنوه وأهل بيته والعباس وعلي ثم حضر وقت الصلاة فقال مروا أبا بكر فليصل بالناس فقالت عائشة: إنه رجل أسيف لا يستطيع أن يقوم مقامك فمر عمر فامتنع عمر وصلى أبو بكر ووجد رسول الله صلى الله عليه وسلم خفة فخرج فلما أحسن أبو بكر تأخر فجذبه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقامه مكانه وقرأ من حيث انتهى أبو بكر ثم كان أبو بكر يصلي بصلاته والناس بصلاة أبي بكر قيل صلوا كذلك سبع عشرة صلاة وكان يدخل يده في القدم وهو في النزع فيسمه وجهه بالماء ويقول اللهم أعني على سكرات الموت فلما كان يوم الاثنين وهو يوم وفاته خرج إلى صلاة الصبح عاصبا رأسه وأبو بكر يصلي فنكص عن صلاته ورده رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده وصلى قاعدا عن يمينه ثم أقبل على الناس بعد الصلاة فوعظهم وذكرهم ولما فرغ من كلامه قال له أبو بكر: إني أرى أصبحت بنعمة الله وفضله كما نحب وخرج إلى أهله في النسح.
ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته فاضطجع في حجرة عائشة ودخل عبد الرحمن بن أبي بكر عليه وفي يده سواك أخضر فنظر إليه وعرفت عائشة أنه يريده قال: فمضغته حتى لان وأعطيته إياه فاستن به ثم وضعه ثم ثقل في حجري فذهبت أنظر في وجهه فإذا بصره قد شخص وهو يقول: الرفيق الأعلى من الجنة فعلمت انه خير فاختار وكانت تقول: قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم بين سحري ونحري وذلك نصف نهار يوم الإثنين لليلتين من شهر ربيع الأول ودفن من الغد نصف النهر من يوم الثلاثاء ونادى النعي في الناس بموته وأبو بكر غائب في أهله بالنسخ وعمر حاضر فقام في الناس وقال: إن رجالا من المنافقين زعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات وأنه لم يمت وإنه ذهب إلى ربه كما ذهب موسى وليرجعن فيقطعن أيدي رجال وأرجلهم وأقبل أبو بكر حين بلغه الخبر فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فكشف عن وجهه وقبله وقال: بأبي أنت وأمي قد ذقت الموتة التي كتب الله عليك ولن يصيبك بعدها موته أبدا وخرج إلى عمر وهو يتكلم فقال: أنصت فأبى وأقبل على الناس يتكلم فجاؤا إليه وتركوا عمر فحمد الله وأثنى عليه وقال: أيها الناس من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت ثم تلا: {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل} الآية فكأن الناس لم يعلموا ان هذه الآية في المنزل قال عمر: فما هو إلا أن سمعت أبا بكر يتلوها فوقعت إلى الأرض ما تحملني رجلاي وعرفت أنه قد مات وقيل تلا معها: {إنك ميت وإنهم ميتون} الآية.
وبينما هم كذلك إذ جاء رجل يسعى بخبر الأنصار أنهم اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة يبايعون سعد بن عبادة يقولون منا أمير ومن قريش أمير فانطلق أبو بكر وعمر وجماعة المهاجرين إليهم وأقام علي والعباس وإبناه الفضل وقثم وأسامة بن زيد يتولون تجهيز رسول الله صلى الله عليه وسلم فغسله علي مسنده إلى ظهره والعباس وابناه يقلبونه معه وأسامة وشقران يصبان الماء وعلي يدلك من وراء القميص لا يفضي إلى بشرته بعد أن كانوا اختلفوا في تجهيزه ثم أصابتهم سنة فخفقوا وسمعوا من وراء البيت أن غسلوه وعليه ثيابه ففعلوا ثم كفنوه في ثوبين صحاريين وبرد حبره أدرج فيهن إدراجا واستدعوه حفارين أحدهما يلحد والآخر يشق ثم بعث إليهما العباس رجلين وقال للهم خر لرسولك فجاء الذي يلحد وهو أبو طلحة زيد بن سهل كان يحفر لأهل المدينة فلحد لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولما فرغوا من جهازه يوم الثلاثاء وضع على سرير بيته واختلفوا أيدفن في مسجده أو بيته فقال أبو بكر سمعته صلى الله عليه وسلم يقول: ما قبض نبي إلا يدفن حيث قبض. فرفع فراشه الذي قبض عليه وحفر له تحته ودخل الناس يصلون عليه أفواجا الرجال ثم النساء ثم الصبيان ثم العبيد لا يؤم أحدهم أحدا ثم دفن من وسط الليل ليلة الأربعاء»
وعن عائشة «لاثنتي ليلة من ربيع الأول» فكملت سنو الهجرة عشر سنين كوامل وتوفي وهو ابن ثلاث وستين وقيل خمس وستين سنة وقيل ستين.